الملتقى الأسري التاسع – الأزمة المالية وترشيد الإنفاق الأسري

شهد العالم وبصورة أساسية الاقتصاد الرأسمالي العديد من الأزمات منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين و من أهمها:

أزمة عام 1866  , أزمة ” الكساد الكبير Great Depression  ” فى عام 1929 , أزمة الديون العالمية مع بداية الثمانينات , الأزمة المالية عام 1997 , أزمة “فقاعات شركات الإنترنت” في أواخر القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة

      ولا يوجد تعريف أو مفهوم محدد للأزمة المالية، لكن من المفاهيم المبسطة لمصطلح الأزمة المالية، هي اضطراب حاد ومفاجئ في بعض التوازنات الاقتصادية يتبعه انهيار في عدد من المؤسسات المالية تمتد آثاره إلى القطاعات الأخرى,والأزمة المالية  الحالية هي التداعيات الناجمة عن أزمة الرهون العقارية التي ظهرت على السطح في العام 2007 بسبب فشل ملايين المقترضين لشراء مساكن وعقارات في الولايات المتحدة في تسديد ديونهم للبنوك. وأدى ذلك إلى حدوث هزة قوية للاقتصاد الأميركي، ووصلت تبعاتها إلى اقتصاديات أوروبا وآسيا مطيحة في طريقها بعدد كبير من كبريات البنوك والمؤسسات المالية العالمية. ولم تعد الأزمة الأميركية الحالية جزئية تقتصر على العقارات بل أصبحت شاملة تؤثر مباشرة على الاستهلاك الفردي الذي يشكل ثلاثة أرباع الاقتصاد الأميركي وهو بالتالي الأساس الذي ترتكز عليه حسابات معدلات النمو. ونتيجة لهذه المتغيرات والتحولات التي يشهدها العالم و تشهدها مجتمعاتنا وانعكاس آثارها على الأسرة و العلاقات بينها، وتنوع تلك المؤثرات مابين اجتماعية وثقافية واقتصادية وبغرض نشر التوعية العامة باعتبارها أساسا لدرء المخاطر وتجنبها …..ارتأينا أن  يركز ملتقانا الأسري التاسع  على العلاقة بين الاقتصاد واستقرار الأسرة، وأثره على  التنشئة الاجتماعية للأبناء وعلى القيم والاتجاهات التي يحملونها حول مفهوم المال والادخار والاستثمار والاستهلاك. ومن محورين أساسيين الأول اقتصادي والثاني أسري .

وضمن المحور الاقتصادي تناول الأستاذ نجيب  الشامسي(مدير عام دائرة البحوث والدراسات  /الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي) طرح موضوع” الأزمة الاقتصادية في الدولة، تبعاتها والمعالجات المتخذة”. موضحا ان الإنسان هو أساس أي استثمار اقتصادي وتقع على عاتقه مسؤولية وضع حصانات لأي أزمات يمكن أن تؤثر على الدول والتي بدورها تؤثر على كافة شرائح المجتمع وأفراده ومؤكدا على ان الانسان اساس التنمية والاستثمار في دولة الامارات العربية المتحدة ،إن الأزمات المالية لا تأتي من فراغ بل تتفاعل مع الوضع الاقتصادي الكلي الذي تعاني منه الدول وفي مقدمتها  الولايات المتحدة حيث يعاني الاقتصاد الأمريكي من مشاكل خطيرة، لم تقتصر على قيم الأسهم بل امتدت لتشمل الاقتصاد الحقيقي برمته فهي أزمة اقتصادية بدأت منذ عدة سنوات ولا تزال في طور الاستفحال، وليست حكومية فقط بل تمتد لتشمل الشركات والأفراد في مقدمته هذه المشاكل عجز الميزانية واختلال الميزان التجاري وتفاقم المديونية الخاصة والعامة إضافة إلى الارتفاع المستمر لمؤشرات البطالة والتضخم والفقر. وانتقلت عدوى الأزمة الأميركية إلى جميع أنحاء العالم مع ملاحظة أن نسبة التراجع لم تكن على وتيرة واحدة. وهبط المؤشر العام حتى في دول لا توجد فيها استثمارات أميركية في البورصة كالسعودية بنسبة تفوق هبوط المؤشر العام في بلدان أخرى لا تضع قيوداً على الاستثمارات الأجنبية ومن بينها الأميركية كأوروبا. ليحصر اسباب  عالمية الأزمة المالية بعوامل ثلاثة هي:-

  • ·         العامل الأول والأساس هو ظهور بوادر الكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمر الذي ينعكس على صادرات البلدان الأخرى وعلى أسواقها المالية.
  • ·         العامل الثاني هو تعويض الخسارة حيث اعتاد بعض أصحاب رؤوس الأموال الاستثمار في عدة أسواق مالية في آن واحد. فإذا تعرضت أسهمهم في دولة ما للخسارة فأن أسهمهم في دولة أخرى قد لا تصيبها خسارة. وفي حالات معينة عندما تهبط أسهمهم في دولة ما فسوف يسحبون أموالهم المستثمرة في دولة أخرى لتعويض الخسارة أو لتفادي خسارة ثانية ،وهذا ما حدث في بعض البلدان العربية كمصر والسعودية حيث هبط المؤشر العام بسبب هذه العمليات التي قام بها مستثمرون نتيجة خسارتهم في ول ستريت.
  • ·         وفيما تبلورالعامل الثالث بالخوف من هبوط جديد وحاد لسعر صرف الدولار الأميركي مقابل العملات الرئيسة، وهذا التراجع يعني خسارة نقدية للاستثمارات بالدولار سواء في الولايات المتحدة أم خارجها. وما يتبعها من خسارة وبنفس النسبة في البلدان التي تعتمد عملاتها المحلية على سعر صرف ثابت أمام الدولار كما هو حال غالبية أقطار مجلس التعاون الخليجي، وعلى هذا الأساس فأن أية أزمة مالية في الولايات المتحدة تقود إلى سحب استثمارات من هذه الأقطار لتتوطن في دول أخرى ذات عملات معومة كأوروبا وبلدان                         جنوب شرق آسيا.

وفي ختام طرحه تطرق  الأستاذ نجيب الشامسي على الآثار الإيجابية للأزمة موضحا أن الصدمات والأزمات غالبا ما تدفع بالمتأثرين بها إلى إعادة النظر في أوضاعهم الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية وسواها.وموجزا هذه الايجابيات الأزمة بما يلي:

  • ·         إن الأزمة الراهنة من شأنها أن تدفع أصحاب القرار الاستراتيجي ثم الاقتصادي في دول المنطقة إلى إعادة النظر في أوضاع المنطقة وتحقيق إصلاحات جذرية في البنية الاقتصادية تعمل على تحويله إلى اقتصاد حقيقي له قاعدة إنتاجية ثابتة وعدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للناتج المحلي .
  • ·         إعادة النظر في الاستثمارات الأجنبية ومنح التسهيلات الكبيرة لها في دول مجلس التعاون الخليجي, ضمن قوانين ومحددات مدروسة الأبعاد وجدواها الاقتصادية ومدى أهميتها في تعزيز البنية الاقتصادية في كل دولة وفي منطقة دول المجلس عامة .وتفعيل عملية التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين دول المجلس على الصعيد الاقتصادي من حيث إلغاء المشاريع المزدوجة واستكمال متطلبات السوق الخليجية المشتركة والتسريع في مشروع العملة الخليجية الموحدة كخطوة حيوية في إطار مسيرة التكامل الاقتصادي ثم الوحدة الاقتصادية أو الاتحاد الاقتصادي .
  • ·         وقف التسابق نحو إنشاء مشاريع عقارية ضخمة في دول المجلس تفوق القدرة الاستيعابية للسوق أو الحاجة الفعلية للمجتمع.
  • ·         التراجع السريع والواضح في الأسعار العقارات وهو ما يشكل تصحيحا إيجابيا لأسعار سوق العقار وعودة حقيقية وطبيعية لأسعار المواد الأولية التي ارتفعت بشكل قياسي خلال المرحلة التي سبقت وقوع الأزمة المالية العالمية. الأمر الذي شكل معضلة حقيقية أمام المواطنين من ذوي الدخل المحدود في تحقيق حلمهم ببناء منزل العمر لأسرهم أو تكيف ذوي الدخل المحدود مع تحقيق متطلبات العيش في مجتمعات دول المجلس.كذلك انخفاض أسعار السلع الأولية كالحديد والمواد الأولية الأخرى بسبب الأزمة المالية العالمية يشكل فرصة سانحة أمام حكومات دول المجلس لاستكمال مشاريع البنية التحتية مستفيدة من الفوائض المالية الضخمة التي تراكمت في السنوات الأربع الأخيرة بحكم ارتفاع أسعار النفط
  • ·         الوعي بخطورة التواجد الكبير للعمالة الأجنبية وتدفق الوافدين إلى دول المنطقة حيث أدى التدفق السكاني إلى خلل حقيقي وتهديد فعلي لاستقرار المنطقة وأمنها واقتصادها .
  • ·         إعادة النظر في النظام المالي العالمي والبحث عن سبل جديدة لهذا النظام، من بينها قواعد إسلامية كالصناعة المصرفية الإسلامية ومنتجات مالية إسلامية ما يعزز من حضور دول مجلس التعاون على الساحة الاقتصادية العالمية عبر مصارفها ومؤسساتها الاستثمارية الإسلامية. وإعادة النظر كذلك في حجم ارتباطها بالخارج سواء في اعتمادها الكلي على الخارج في توفير متطلباتها من السلع الغذائية والاستهلاكية .

اما بالنسبة للمحور الأسري فقد تناول الأستاذ الدكتور احمد الخطابي /أستاذ مساعد في قسم الاجتماع جامعة الشارقة طرح تبعات الأزمة على الانفاق داخل الدولة بورقة عمل بعنوان”الأزمة المالية وانعكاساتها على الإنفاق الأسري”  ،تناول فيها دراسة اثر الانعكاسات الاجتماعية المباشرة للازمة المالية على الإنفاق الأسري ابتداء من عدم ضمان الأمن الوظيفي (الذي يعد مصدر رزق للغالبية العظمى من الناس 85.9 يعملون بأجر)، إلى تزايد الخلافات الأسرية بسبب عدم القدرة على تلبية متطلبات العيش .متناولا الموضوع من زاويتين: الزاوية الموضوعية كما تعبر عنها الإحصاءات الصادرة عن الدوائر الرسمية والزاوية الذاتية كما يعبر عنها الإدراك الاجتماعي للناس من خلال معايشتهم للواقع.وفي سياق تناوله للجانب الموضوعي لانعكاسات الأزمة المالية وبالاعتماد على نتائج المسح الذي أعدته وزارة الاقتصاد على مستوى إمارات الدولة لعامي 2007و،2008 على عينة بلغ حجمها نحو 15 ألف أسرة، أن متوسط حجم الأسرة الكلي في الإمارات 5.1 (فرد)، وعلى مستوى الأسرة المواطنة بلغ متوسط حجمها 9.3 (فرد)، في حين كان 4.1 (فرد) للأسرة غير المواطنة . وبحسب العينة التي بلغت تمثيل الأسر المواطنة بها ما يقارب 19.1 ٪ من الأسر في الدولة، مقابل 61.9٪ أسر غير المواطنة، بمتوسط إنفاق شهري عام للأسرة في دولة الإمارات شكل 11241.2 درهماً، وقد تباين هذا المتوسط بحسب نوع الأسرة، إذ بلغ 22989 للأسرة المواطنة، وكان لغير المواطنة 9579 درهما.مؤكدا من خلال تناوله للجانب الذاتي لانعكاسات الأزمة المالية والذي عمد فيه على استخدام عينة غرضيه من الطالبات والطلاب الذين هم على علم بأسلوب الإنفاق في محيط أسرهم، ومستخلصا مجموعة من النتائج المستخرجة والتي بدأت تزامن ظهورها مع أثار الأزمة المالية العالمية على الأسرة الاماراتية وموجهة سلوكياتهم بمناحي اخرىتختلف عن سلوكهم الاستهلاكي والإنفاقي الذي كان يتميز بالبذخ والاستهلاك غير المنضبط، حيث شرع الكثيرون في التقليل من شراء الكماليات أو حتى المواد الأساسية بكميات مبالغ بها وتفوق الحاجة ،وأكد خبراء أن سلوكيات النهم الاستهلاكي لدى سكان الإمارات تغيرت كثيرا في الآونة الأخيرة، متجهين إلى ترشيد مشترياتهم أكثر من أي وقتٍ مضى. وتطابقت وجهة النظر هذه مع وجهة نظر أفراد العينة المدروسة، هذا بالإضافة إلى تراجع الإنفاق على الكماليات من السلع، وتوقفوا عن عادات كانت سائدة قبل الأزمة مثل تغيير السيارات سنويا، وشراء أحدث الهواتف المحمولة، وتراجع الإنفاق أيضا على رحلات السياحة والسفر إلى الخارج. وأرجع السبب في السلوك الاستهلاكي الجديد لدى الإماراتيين إلى تشدد البنوك في منح القروض الشخصية، فضلا عن تراجع أسعار الإيجارات التي كانت لفترة قريبة تقدم مداخيل شهرية كبيرة لعشرات الأسر، بالإضافة إلى تحسن وعي الناس نحو الاهتمام بترشيد السلوك الانفاقي ،وكذلك تراجع تهافت الكثير من الشباب على شراء الأرقام المميزة، سواء بالنسبة للهواتف الجوالة أو بالنسبة للوحات السيارات”، حيث أن البنوك بدأت فعليا في وضع شروط مشددة لمنح الائتمان والقروض كنتيجة طبيعية لظروف الأزمة المالية، و هذه الإجراءات كان لها دور كبير في ترشيد الإنفاق لدى بعض المواطنين, وخلق قناعات بضرورة تنظيم المصروفات وادخار بعض الأموال للمستقبل.